يجلس أمام مكتب عريض؛ رُصَّتْ عليه ملفات تشغل نصف مساحة المكتب… يتساءل: من أين سأبدأ…؟ يمدُّ يده إلى فنجان القهوة؛ يرتشف رشفة؛ ثم لا يلبث أن يُعيدَ الفنجانَ إلى مكانه…القهوة باردة، ضاع مذاقها… يتذكر قهوة وشايَ العمّ “رابح”، يهزُّ رأسه، يهمس لنفسه: “يرحمه الله.. كم كانت قهوته لذيذة… وكم كان شايه طيباً، وكم كانت حكاياته شائقة، رائقة…”! المكان هو نفس المكان، الزمن تغيّر، الأشخاص غير الأشخاص،”عيدون” هو الاستثناء الذي يصنع المرحلة…
خربشات الذاكرة تُطوِّحُ به في فضاء الأمسيات السابحات بين رائحة القسطل المشوي في ليالي الشتاء، وبين حكايا صديقه “سليمان”؛ واستجابة الجمهور المُتنزِّه على الأرْصِفة أو بين ألعاب الصِّبْية في فضاء الملاهي الضاج بحركية الحياة… كان “عيدون” يُرَافِقُ “سليمان” في نزهات البيع والحكي والغناء…. ولكنه كان –في الوقت نفسه- يرسم خارطة طريق جديد، سيجتثُّ بواسطته؛ ندوب الألم المترسّبة في ذاتٍ؛ طالما لاحقتْها تجاوُزَاتُ الظالمين… الحكايا العجيبة لسليمان في المنتزهات وعلى الارصفة؛ استطاعتْ أن تستقطب جمهوراً غفيرأ؛ تتجدّدُ أعْدادُهُ على الدّوام… فهِمَ الناس أنّ “المقول” واقعٌ معيش… وانّ تمثّلاتهِ صنعتْ كل المشاهد المشدودة بشرايينِ الهيْمَنة المَقيتة، فهِمَ الناس أن “عيدون” المظلوم؛ قد تجرّع من كوؤس الغدر ما لا يمكن تصوره… أفْقدَهُ التوحُّش الإنْسَانِي كل أحبائه: العروسُ المقتولة، الصديقُ المقتول.. الأحلامٌ الموْؤودَة…. الزَّجُّ به في مصحّة عقلية بتهمة الجنون… مناظرُ بشِعَة؛ تدَمُّرُ الخاطِر مِنْ شِرْذمة همَج؛ لا ضمير… لا إحساس… لا مواثيق.. لا نقاوة… لا ِفطرَة… ولا…. ولا…! الكناشة طويلة عريضة، والأقلامُ تَدَفّقَ حِبْرُها؛ بين طامع ومُزوِّر ونصّاب ومُتملّق.. وقاطع طريق… وقاطع أرْزاق…! “عيدون” في الوسط؛ يتأمل، يُفكّر، يمْتعِض، يحْتار؛ هلْ يُشفق على نفْسِه أمْ عليْهم..؟ يجدُ في رفيقه “سليمان” كل السّلوى… ما أجمل أن تجد مَنْ يفهمك…! وتلك كانتْ بداية الطريق…
أقنعه “سليمان” بالتقدّم للعدالة، وعرْضِ ما رأى وما سمِع منْ مصائبَ حين أُسْتُدْعِيَ للوظيفة الجديدة… لا يهمّ؛ أن تجْترّهُ أرْوقة العدالة لِسَنوات من أجل التحقيق… لا يهمّ أن يطول أوَانُ الحكم لصالحه ولِصالِح أمْثاله…اليوْم؛ هو حُرّ… يجُرُّ عربة القسطل مع سليمان، ويُغنّي….! لديْه القوّة والصّبْر والسّند… لنْ يصْدِمه تحريف الحقائق، لن يضعفه جبروت الزيْف الذي مارسه عليه مَنْ كانوا معه في نفس المكتب… نالوا منه في الماضي بالحِيَل… وسينالُ منهم بجمع كلمة المظلومين…!
بدأتِ الإجراءات…حضر مَنْ حضر وغاب مَنْ غاب… توالت الجلسات…فاحتْ روائح المكر من المُتّهَمِين الذين تسببوا في ضياع “عيدون”… ُيجدِّدُ القاضي تواريخ جديدة ِللاِسْتماع… لجمْعِ المزيد من الحقائق… يتَّسِع مَكرُ المُتّهَمين، يبذلون ما في وُسْعِهِمْ مع مُحامِيهِم لتغيير الصورة… ! يتشبّثُ “عيدون” بالمطلب… يُصْبِح المَطلبُ “قضية”…!
يفوز “عيدون” بالقضية، تُنْصِفُهُ العدالة… يعود إلى وظيفته، يلتفُّ حوله كلّ منْ عاش حكايته، اليوم هو غير الأمس….! اليوم؛ “عيدون” غارق في إصلاح عطب السنين الماضية!
عندما ينتهي “نوري” من القراءة، يتساءل بصوتٍ مسموع: ” لماذا فصَلتْ صاحبةُ النص؛ بين البداية والنهاية…ألم تكن البداية هي قصة بائع القسطل؟” يسمعه الشاب “ميمون”، فيُعلّق بمرح: ” النهاية هي البداية الحقيقية يا مُعَلّمي…! ننْتَهي على الأرْض فنَموت…. ونموتُ لنُبْعَث في سيْرُورَة أخْرَى..” يتأفف “نوري” من فلسفة مُساعِده، ثم يستخرج كراسته وكأنه يهرب إلى روْضته المفضلة؛ يستظل في إحْدى وَاحات الفنّ الجميل، فتُتابعُ عيْناهُ سطور المكتوب.. ويغيب بين رموز “عزيز فهمي” حين يناجي “طرفة بن العبد” أنْ: “أُسْكُبْ شهقة الراح في كأس العمر”…يستشعرُ مُتْعة خاصّة؛ تُحَفّزُه لقراءة المزيد، ثمّ ينتقل إلى “عبد الحفيظ بن جلولي” ويغيب في : “برْقُع القوَاميس” …
تدخل المعلمة “سلمى” المتجر، لتقتني بعض الأغراض؛ يساعدها الشاب “ميمون” على جمع الأغراض داخل الأكياس، وبينما يسحب “نوري” الفاتورة من الجهاز؛ يرِنُّ هاتفُها المحْمول؛ تنْبعثُ نغمة الرّنّة بصوت “لطفي بوشناق” : “خذوا المناصب… والمكاسب… لكن خلولي الوطن…!” “نوري” و”ميمون” يتبادلان النظرات… تمَنّيا لوْ تسْتمِرّ هذه الرّنة..
/ سيدي بلعباس / الجزائر
“عيدون”.. الأسطورة!!
بقلم : شميسة غربي ... 25.02.2021