يتعلم الكاتب الحقيقي من تجاربه، ويرتفع مستوى إبداعه وجودة أعماله، كلما جد جديد له، وهذا ما يلمسه القارئ لرواية «العبور على طائرة من ورق» إذ تُعدُّ قفزة نوعية للروائية الأردنية زينب السعود عن روايتها الأولى «الحرب التي أحرقت تولستوي» على صعيد اللغة والمضمون وفنيات الرواية وغيرها؛ إذ تميزت الرواية بلغتها الجميلة الموحية، المكتنزة بالمعاني الدقيقة والفكر العميق، وجملها ذات الصياغة المحكمة. وتعبر بصدق عن وضوح الرؤية، والثقافة الواسعة للكاتبة، وقدرتها على توظيف قناعاتها وما تؤمن به بمهارة وذكاء، دون أن تُشعر القارئ بذلك، ودون إقحام أو استعراض لغوي أو فكري أو وعظي.
وجاء السرد سلسا، رائقا، متدفقا، يتمتع بالإثارة والتشويق والترقب، والجاذبية القرائية، فلا وجود للملل، أو الرتابة، أو الحشو، أو القصص الجانبية دون مبرر. وخلت الرواية من الشخصيات الزائدة التي لا دور لها، بل إن كل الشخصيات الثانوية كانت لها ضرورة في إحكام السرد، وتوضيح زاوية ما، وتأدية وظيفة لا غنى عنها. وقد برعت الكاتبة في ربط أحداث الرواية بمهارة، ونسجت شبكة علاقاتها بإتقان، على الرغم من تداخلها وتعقدها، ويلاحظ القارئ أن معظم شخصيات الرواية مرتبطة بخيط ما بغيرها، ومع أن ذلك قد يكون صعبا في الواقع، لكنه مقبول في العمل الروائي، ذي القصدية المتعمدة. كما أن البشر، بشكل ما، مرتبطون ببعضهم بعضا بشيء ما، وكلما ضاقت المساحة، اتسعت الروابط.
في رواية «الحرب التي أحرقت تولستوي» كانت الروابط محدودة، تكاد تقتصر على هتاف وإلياس وعبدالسلام، لكنها في هذه الرواية تشعبت، وشملت جميع الشخصيات، دون استثناء، في شبكة محبوكة ومدروسة بدقة. وهذا يُسجل للكاتبة أنها نجحت في الإمساك والسيطرة على أحداث الرواية وترابطها وشبكة علاقاتها المعقدة.
تعدد الأصوات والحوار
اعتمدت الرواية على تقنية تعدد الأصوات، وهي تقنية تعطي الحرية للشخصيات، لتقول ما عندها، وتعبر عن نفسها دون تدخل من الكاتب، أو الراوي العليم إلا مرة أو مرتين وبشكل خاطف، وقد تناوب على السرد خمس شخصيات هي: هتاف، أمجاد، إلياس، عبدالسلام، أميرة، في اثنين وعشرين فصلا معنونة. ومن يقرأ الرواية يجد أن العدالة تحققت نوعا ما في توزيع الأصوات والأدوار، وإن بقيت بعض الأصوات غائبة، لم تدافع عن نفسها، على الرغم مما أثير حولها من لغط، مثل زياد خصم إلياس، وبسمة أم أمجاد، وأم هتاف، ولعلها تتكلم في جزء ثالث مأمول.
وظفت الرواية الحوار بشكل مقنن، بما يخدم النص، ولم تتوسع فيه، وجاء في مكانه، يؤدي وظيفته في التعبير والإفصاح والفضفضة، ولا يوجد في نص الرواية أي حوار زائد عن الحاجة أو لا ضرورة له. واستخدمت الرواية اللغة الفصيحة في الحوار، إلا من كلمات محدودة جدا باللهجة المحكية، ومن حيث مستوى لغة الحوار، جاءت متقاربة؛ لتقارب مستوى الشخصيات الثقافي والعلمي؛ فجلهم جامعيون ومتعلمون.
الصراع
حضر الصراع بقوة في الرواية، ويمكن اعتبارها رواية صراع من الدرجة الأولى، الذي جاء بأشكال مختلفة؛ داخليا وخارجيا، وبين الشخصيات، وبين الشخصية والمجتمع، وبين الشخصية والطبيعة. وجاء متوازنا منسجما مع الشخصيات دون مبالغة، ومتوافقا مع التصور الذي يتولد في مخيلة القارئ عن الشخصيات والأحداث، والثيمة الرئيسة للرواية، لكن يُلاحظ أن معظم الصراعات بنيت أو نشبت على خلفيات سابقة، ولم تكن وليدة اللحظة. والصراع، أمر أساسي في العمل الروائي، لا يمكن أن يكتمل دونه، ويمنح الرواية الحيوية والواقعية والإثارة والتشويق والجاذبية، كما أنه يكشف عن حقيقة الشخصيات ودواخلها وتطورها ونموها، وخلفياتها، وطبيعتها وجوهرها. وبشكل عام، لا يمكن أن تخلو رواية من الصراع، باعتباره ضرورة من ضرورات الحياة، ومن علاماتها ومستحقاتها. وقد تركز الصراع حول ثلاث شخصيات في الرواية، وبدرجات متفاوتة، وهي: أمجاد وهتاف وإلياس.
أما أمجاد، فشخصية مضطربة، تتأرجح بين الأنوثة والذكورة، وهي في حقيقتها ذكر. أنهت دراسة الهندسة في أوكرانيا، بعد أن تركت أو تُرّكت الطب، واضطرت للمغادرة قبل أن تتسلم شهادة تخرجها. تعيش مع أختها برعاية عمتها، بعد وفاة والدها وزواج أمها. وهي كتلة من الصراع داخليا وخارجيا، ومرد ذلك في الأساس إلى فقدانها الهوية، واضطراب حياتها، وكثرة التدخلات فيها، وضبابية مستقبلها.
والشخصية الثانية هتاف؛ الابنة المدللة، أرسلها أبوها لدراسة الطب في أوكرانيا، وعادت بعد ثلاث سنوات بسبب الحرب. تعيش رفقة والديها. وبرز صراعها الداخلي بسبب الحرب في أوكرانيا وما خلفته عندها من صور وأصوات الرعب والقصف والدمار، وتوترها حول ما فرضه عليها والدها من دراسة الطب وما تريده من دراسة الأدب، وصراعها حول انعدام حساسيتها ومبادراتها الطبية في أوقات الحاجة، واضطرابها وهي تفكر في إلياس واستفزازه وكلامه القاسي بحقها بأنها مدللة وضعيفة ومجنونة، ومشاعرها المضطربة بشأنه، وصدمتها حول دور والدها في مشكلة أمجاد وتفريقهما عن بعض، وحزنها وأسرتها بعد فقد أختها وابنها.
الشخصية الثالثة إلياس، طبيب، أنهى تخصص الغدد الصماء في أوكرانيا، وعاد بسبب الحرب دون أن يحصل على شهاداته، وله علاقة وثيقة بالدكتور عبدالسلام، وعلى اطلاع بظروف ابنته هتاف، وكان له دور في إبعاد أمجاد عنها، وبينه وبين زياد (الموظف في الجامعة) تاريخ من العداء أثناء المرحلة الثانوية. وقد عانى صراعا داخليا وخارجيا، بسبب كل هؤلاء، بالإضافة إلى صراعه الداخلي بسبب زواجه من المولدوفية إيفا بداية دراسته في أوكرانيا للحصول على تصريح بالعمل، وحرصه على سمعته الإيجابية التي قد تتضرر جراء ذلك، وصراعه مع إيفا التي نجحت في استدراجه إلى بلدها، بحجة استلام أوراقه الرسمية، ورؤية ولده الذي لم تخبره عنه من قبل، ما شكل له صراعا داخليا حول ابن ظهر فجأة من العدم، وتبين لاحقا أن إيفا كذبت عليه بشأن الولد ليكون مصيدة له للسفر إليها، علها تنجح في الاستحواذ عليه مرة أخرى.
وبعد؛ فإن «العبور على طائرة من ورق» رواية تناولت قضايا ومشكلات كثيرة، مثل الاستغلال الوظيفي وتصفية الحسابات، إعادة تصحيح الجنس والخوف من نظرة المجتمع، التفرد بالقرار، الأمراض الوراثية وتأثيرها النفسي، مشاعر الفقد، التشبث بالحلم، تصحيح المسار، القسوة الرحيمة، تأثير الحروب على المدنيين، اليتم، التنمر، الغيرة والاتهامات الظالمة، وغيرها. وهي رواية تثير كثيرا من التساؤلات على غير صعيد، وتميزت بالتشويق والإثارة والجاذبية القرائية، إلى جانب المتعة والزاد المعرفي، ومواكبة الأحداث الجارية بحذر، وبث روح الأمل، أيًا كانت العقبات والمشكلات.
الصراع وتعدد الأصوات في رواية «العبور على طائرة من ورق»!!
بقلم : موسى إبراهيم أبو رياش ... 13.08.2024