أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
19 ساعة من أقصى جنوب الجزيرة إلى حدود غزة!!
بقلم : عبدالجبار عوض الجريري ... 26.10.2014

لم يكن ببساطة بالنسبة إلينا الدخول إلى قطاع غزة خلال الحرب الأخيرة " حرب العصف المأكول " وخاصة أننا انطلقنا من اليمن قبل أنتهاء الهدنة الأخيرة بساعات ، فوصلنا إلى مطار القاهرة الواحدة بعد منتصف الليل تاريخ 19 / 8 / 2014م، فواصلنا مسيرنا نحو غزة على الرغم من عناء السفر ومشاقه ولم ننم تلكم الليلة بل ذهبنا مباشرة من مطار القاهرة الصالة رقم 1 إلى موقف الباصات الكبيرة في حي الماظة أو المازة كما ينطقها الإخوة المصريين - لأنهم يميلون الظاء إلى الزاء القريبة من الصاد – وعندما وصلنا إلى موقف الباصات أو كما تسمى في مصر – السوبر جيت – وجدنا مكاتب الحجز مغلقة لأن الوقت متأخر فالساعة الثانية فجراً تقريبا .
جلسنا جانب بوفية قريبة من موقف الباصات وما أن جلسنا حتى أتى صاحب المحل ليسألنا ما إذا كانت لنا حاجة فطلبنا شاي أحمر فقدم لنا الشاي مع كوب ماء ولأول مرة شربنا من ماء مصر الذي بدأ وكأنه يحتوي على زيادة في مادة الكلور المعقمة كما شعرنا بذلك عند شربنا .
لم يكن أحد يجلس بالمكان سوانا إضافة إلى صاحب البوفية ورجلاً وزوجته جالسان أمام التلفاز يشاهدان الأفلام المصرية التي سببت لهما النعاس في بعض الأوقات كما رأيناهما .
وعند اقتراب الفجر انطلق الرجل وزوجته فوق عربة خشبية يجرها حصان تحمل هذه العربة كيس كبير يضم العلب المعدنية الفارغة الخاصة بالمشروبات الغازية الملقاه على جانبي الشارع حيث يأخذ الرجل كل علبة يجدها في طريقه ويضعها في هذا الكيس .
جلسنا على هذه الحال تارة ننام فوق الكراسي وتارة نستيقظ خاصة عندما نسمع نباح الكلاب المتوجدة بكثرة هنا في قاهرة المعز ، كان الجو يميل نسبيا إلى البرودة فأخرجنا بعض " الفوط " اليمنية لنتحمي بها من لسعات البرد المصرية.
أذن الفجر وفتحت مكاتب الحجز بعد صلاة الفجر فقمنا بالحجز إلى منطقة العريش المصرية لأن السوبر جيت لا يصل إلى رفح المصرية وقد أخترنا العريش لقربها من رفح فهي لا تبعد سوى 45 دقيقة عن رفح .
تحركنا الساعة التاسعة إلا ربع وليس كما هو مقرر الثامنة والربع في تذكرة الباص ، فكان حظي أن مقعدي يقع آخر الباص وكان عن يساري شاب اسمه محمود من العريش وعن يميني رجل ربما يبلغ من العمر 55 عاما اسمه صلاح حمدي يعمل محاسب كما علمت منه بعد ذلك وهو من أبناء العريش زار اليمن كما أخبرني بذلك.
واصلنا المسير نحو العريش في شمال سيناء وقبل وصولنا إليها تعرضنا للتوقف أكثر من مرة من قبل نقاط التفتيش التابعة للداخلية وبعضها يتبع قوات الجيش كما يظهر ذلك من الملابس التي يرتدونها هؤلاءِ الجند ، وفي كل مرة نقف فيها يتم أخذ البطاقات الشخصية للركاب وجوازات سفرنا كوننا غير مصريين وفحصها لمدة لا بأس بها ومن ثم يرجعونها إلينا بعد تأكدهم منها .
كان التفتيش شديد للغاية وخاصة معنا نحن اليمنيين لأنهم على ما يبدو يخافون من اليمنيين أكثر من خوفهم من السيناويين ، فحدث ذات مرة عندما وصلنا إلى مديرية أمن سيناء أن الجنود طلبوا منا الخروج من الباص بعد معرفتهم بجنسياتنا اليمنية فخرجنا وبدأوا يوجهون إلينا الأسئلة الاعتيادية إلى أين أنتم ذاهبون ؟ وماذا تريدون ؟
فأخبرناهم بأننا في طريقنا إلى غزة ونحن وفد إعلامي وطبي يمني كما هو موجود على جوازات سفرنا وهدفنا التضامن مع أخواننا في غزة ، فسمحوا لنا بعد ذلك بالعبور ورجعنا إلى الباص ليواصل مشواره من جديد .
الوصول إلى العريش
وصلنا العريش بعد 6 ساعات قضيناها في الباص فوق صحراء سيناء الحارة ، وقد كان يخيل إلينا خلال الطريق أن هذه الأماكن معروفة بالنسبة لنا ، فقد كانت البيوت في سيناء متواضعة جداً تذكرك ببيوت الأفارقة في أدغال أفريقيا وسيرليون وأكواخ المهمشين في اليمن ، بيد أن اللافت في الأمر هو كثرة أشجار البرتقال والزيتون على طول الطريق إلى العريش وهو ما نفتقر إليه الآن في اليمن السعيد سابقا .
وصلنا إلى العريش بعد أن قطعنا قناة السويس من خلال العبّارات التي تحمل المركبات والأشخاص من الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية للقناة .
وصلنا العريش الساعة الثانية والنصف بعد الظهر يوم الثلاثاء بتاريخ 19 / 8 / 2014م، ومن فورنا استقلينا سيارات أجرة خاصة وانطلقنا مسرعين بقيادة بدو سيناء أصحاب اللهجة الفلسطينية والجنسية المصرية ، وكان القلق يعتلينا بسبب خوفنا من الوصول قبل الساعة الرابعة عصرا وهو موعد إغلاق المعبر ، ولحسن الحظ أن المعبر مفتوح لهذا اليوم قبل ساعات قليلة من أنتهاء الهدنة الأخيرة ، واصلنا المسير وأعترضنا بعض الجنود وحاولوا إخبرانا بأنه لا يسمح لنا بالتقدم أكثر إلى المعبر غير أن أصحاب السيارت مصممون على إيصالنا إلى المعبر بكل الوسائل الممكنة ، فاستمروا فالتقدم ولم ينصاعوا لقوات الجيش التي عززت من تواجدها في طريق العريش - رفح ونشرت الدبابات والآليات والجنود على طول الطريق ، لقد كانت لحظات عصيبة مررنا بها كلما اقتربنا من معبر رفح شعرنا بالخوف من احتمال عدم إدخالنا بعد هذه المسافة الطويلة التي قطعناها من سواحل حضرموت إلى هذا المكان ، وشعرنا في الوقت نفسه بالفرح الغامر بسبب اقترابنا من غزة هاشم .
الوصول إلى معبر رفح
وأخيرا وبعد هذه المشقة وعناء السفر وتكبد الصعاب أخيرا وصلنا إلى معبر رفح في تمام الساعة الثالثة والنصف عصرا وكان قطاع غزة هادئ نسبياً لأن الهدنة شارفت على النهاية ، وصلنا المعبر وخرجنا من السيارات بسرعة البرق وتوجهنا إلى بوابة المعبر فاعترضنا الجنود المصريين المكلفين بحراسة المعبر من الجانب المصري وطلبوا جوازاتنا فأعطيناهم إياها ولكن وقع الأمر الذي لا يصدق ، قالوا لنا أنه لا يسمح بدخولنا ولا بدخول أي شخص حتى لو كان مصريا إلى غزة إلا من يحمل جواز السفر الفلسطيني !
حاولنا فيهم بكل الطرق ولكن لا فائدة ترجى من أشخاص يعملون ليل نهار على حماية عدو الأمة، مكثنا بعض الوقت في المفاوضات والمناقشات ، وأخبرناهم بأننا أتينا من أقصى جنوب الجزيرة العربية إلى هنا والآن وبعد أن صار بيننا وبين غزة 20 متراً فقط يقومون بمنعنا !!
بيد أن هؤلاءِ الجند بدأوا وكأنهم لا يسمعون ما نقول فقط يردون علينا في كل مرة بأن هناك أوامر عليا صدرت إليهم بمنع كل شخص من دخول غزة من غير حملة الجوازات الفلسطينية ، وأمام هذا التعنت الكبير أُصبنا بصدمة لا مثيل لها أبداً فقد تحطمت أحلامنا وآمالنا التي رافقتنا منذ بداية الرحلة إلى معبر رفح ، تحطمت هذه الأمال حيث تحطمت النخوة والشهامة والأخوة العربية ، وحلت على أفئدتنا ونفوسنا هموم وألام وأحزان لا تقل عن ما يعانيه أهلنا في غزة نتيجة الحصار والحرب والدمار.
اصابنا اليأس وأدركنا أننا لا نستطيع الدخول فعلاً إلى غزة ، فدخلنا خطوات إلى المعبر وتخطينا البوابة لم يتبقى أمامنا سوى صالة المغادرة في الجانب المصري للداخلين إلى غزة والتي لا تبعد عنا سوى أقل من 10 أمتار ،ربما لا يكون معروف لدى الجميع أن المعبر يتكون من بوابة في الجانب المصري والتي نتواجد داخلها يليها صالة المسافرين في الجانب المصري وتبعد عن البوابة 10 أمتار تقريباً ومن ثم تأتي البوابة المصرية الأخيرة من جهة غزة وبعدها تقع الصالة الفلسطينية للمسافرين والتي تبعد عن مكاننا نحو 20 مترا.
العودة إلى القاهرة
بعد أن بات مؤكداٌ لنا بأنه لن يُسمح لنا بالدخول إلى غزة رجعنا أدراجنا إلى القاهرة وهذه المرة استقلينا باص أجرة وكان برفقتنا بعض العوائل الغزاوية من خانيونس وحي الشجاعية فمضينا في الطريق إلى القاهرة فكانت طريق العودة صعبة للغاية ليس بسبب المشقة فحسب بل بسبب الهموم التي سيطرت على عقولنا طيلة تلك الأيام المحزنة ، وكما هي عادتهم أوقفتنا قوات الجيش أكثر من مرة للتأكد من هوياتنا ومدة إقامتنا ، فلما علموا بوجود الأخوة الفلسطينين الذين كنا نتقاسم معهم الألم والأسى هم في محنة الحرب والحصار والدمار ونحن في محنة عدم السماح لنا بدخول غزة بعد المسافة الكبيرة التي قطعناها ،شددت قوات الجيش إجراءتها الأمنية وتعرضنا في بعض النقاط لإخراجنا وتفتيش حقائبنا فحدث في إحدى المرات حينما أردت أن أخرج من الباص وكان بجواري شيخ فلسطيني من حي الشجاعية وزوجته المصرية وتعمل طبيبة كما علمت من زوجها صاحب الأخلاق العالية ، فلما طلبت قوات الجيش مني الخروج حاولتُ أن أنزل فحصل لي ألتوا في رجلي اليسرى ما زال ألمه إلى هذه اللحظة لم يزول بعد .
واصلنا مسيرنا في طريق العودة إلى القاهرة ونحن نتبادل أطراف الحديث مع الأخوة الغزاويين فقال لنا أحد الأباء وكان معنا هو وابنه قال : شهدت كل الأجتياحات الصهيونية لغزة وتعرضنا لكل أنواع الإجراءات الأمنية المشددة في غزة خلال تواجد القوات الصهيونية ولكني لم أشاهد في حياتي كلها أسوا من هذه المعاملة التي يعاملنا بها الجنود المصريين اليوم !! أنتهى كلامه ؛ فقد كانت المعاملة المصرية كما يقول الأخوة من أبناء غزة الذين يرافقوننا أشد بشاعة وتنكيل من المعاملة الصهيونية لهم .
وبعد رجوعنا من رفح المصرية بدقائق قليلة وفي طريق العودة إلى القاهرة قصفت الطائرات الصهيونية معبر رفح من الجانب الفلسطيني وتجددت الحرب بين المقاومة والعدو الصهيوني ولم تتوقف بعدها إلا بالتوصل إلى الحل الذي قبل فيه الصهاينة بمعظم شروط المقاومة .
محاولة الدخول إلى غزة عبر الأنفاق
وصلنا إلى القاهرة وكلنا هم وغم وحزن مسيطرعلى كل مفصل في أجسادنا ، حتى أننا لم نستطع الحديث في بعض الأوقات بسبب ما اصابنا من الجنود المصريين عندما منعونا من دخول غزة .
وصلنا القاهرة وبدأنا نبحث عن بدائل أخرى غير المعبر تستطيع إدخالنا إلى غزة فأتصلنا على بعض الأخوة من غزة وكانوا من أصحاب الأنفاق وعدد الأنفاق المتبقية 7 أنفاق فقط حيث عمد الكيان الصهيوني وقوات الجيش المصري إلى تدمير المئات منها ولم يبقوا سوى هذه الأنفاق التي باتت خطرة بسبب كثافة القصف وتعطيل شبكات الكهرباء فيها .
وفقنا الله في التواصل مع أحد رجال الأنفاق وكان هذا خلال الحرب الممتدة من 19 / 8 / 2014م إلى نهايتها حيث أنها لم تتوقف إلا بعد أن تمت الهدنة بين المقاومة والعدو الصهيوني في نهاية الشهر .
واستمر تواصلنا مع أصحاب الأنفاق من أبناء غزة فعملوا على ترتيب الوضع حيث ذهبوا إلى صاحب البيت المتواجد في رفح المصرية والذي منه يمتد النفق إلى رفح الفلسطينية وأخبروه بأمرنا فطلب منهم أن ينتظروا قليلاً حتى تهدأ الأمور وتتوقف الحرب خاصة بعد الحديث عن قرب التوصل إلى إتفاق بين المقاومة والعدو الصهيوني .
وكما هو متوقع أعلنت المقاومة التوصل إلى وقف إطلاق النار وأبتهج الجميع بهذا الأنتصار التاريخي للمقاومة على العدو الصهيوني ، فكان فرحنا ونحن في القاهرة يوازي فرح إخواننا في غزة لأننا كنا نعتقد أن الوقت قد حان لإدخالنا إلى غزة عبر الأنفاق بعد إيقاف الحرب .
فاتصلنا على الأخوة من أبناء غزة وأبلغناهم استعدادنا الكامل وجاهزيتنا للانطلاق نحو العريش المصرية ومنها سيتم نقلنا إلى رفح المصرية كما هو مقرر حتى ندخل البيت الذي يضم النفق .
وأبلغونا بموعد الانطلاق إلى العريش وأكدوا لنا أن الأمور على أحسن حال ولكن طلبوا مننا أن ننتظر آخر إشارة من صاحب البيت في رفح المصرية ، فأنتظرنا الرد الذي أغلق الطريق أمامنا إلى غزة ونحن على أحر من الجمر ، جاء رد صاحب البيت المصري بأنه لن يستطيع إدخالنا إلى بيته الكائن في رفح حتى لو دفعنا له مليون دولار كما قالها ، بسبب خوفه الشديد على مستقبله ومستقبل أسرته التي ستفقد هذا البيت في حال تم كشفنا أو علمت السلطات المصرية بأمر هذا النفق .
وكان عقاب من يُكشف في بيته نفق هدم البيت وترحيله إلى مناطق بعيدة وهو ما أقلق أخونا المصري الذي كان متعاونا معنا أولاً .
عموماً بعد هذا الذي جرى أتخذنا القرار الأخير بالعودة إلى اليمن وكلنا أمل في أن نرجع مجدداً ونتمكن من دخول غزة هاشم غزة العزة غزة البطولة والإباء ، ونحن نتمعن في ما قاله الدكتور محمود الزهار بأن أهل غزة سيبنون مطارهم ومينائهم ولن يستأذنوا أحداً في ذلك أبداً ، فكانت هذه الكلمات رسالة لنا بأننا سندخل غزة في يوم من الأيام ونحن مكرمين لا نحتاج إلى إذناً من أحد .
وقبل سفرنا من القاهرة إلى اليمن وصلنا خبر مفاده بأن قوات الجيش المصري تخلي المنطقة القريبة من غزة في الجانب المصري بعدما عزمت على جعلها منطقة عازلة، وكان بيت الرجل المصري الذي رفض أن يسمح لنا بالدخول عبر النفق الممتد من بيته إلى غزة هو أحد البيوت المستهدفة في هذه العملية .
رجعنا إلى اليمن وتركنا خلفنا ذكريات لا يمكن أن تنسى أبداً ، تركنا خلفنا سور عظيم يحاط بمدينة حجمها 360 كم2 ، ويسكنها ما يقرب من مليوني نسمة حسب تعداد عام 2014م .
غادرنا مصر وعدنا إلى اليمن مخلفين هنالك ألام وأفراح لا تنتسى ولن تمحى من ذاكرتنا إن غفلها التاريخ .

حضرموت / اليمن
1