لا شك ان ما جرى في محافظات البصرة والنجف وكربلاء، ومدن الجنوب الأخرى، كان متوقعاً إلى حد كبير، بعد ان تبين للعراقيين، كذب وعود الأحزاب الحاكمة لإصلاح النظام السياسي والاقتصادي المتدهور من خلال المباشرة بالحرب على الفساد، بعد الانتهاء من خطر تنظيم «الدولة» عن طريق حكومة جادة ونظام وطني منتخب بشفافية يعمل لخير العراق ويدافع عن حقوق العراقيين.وبانتظار تنفيذ هذه الوعود، لم تمض عدة شهور على انتهاء الحرب على الإرهاب، ليتفاجأ العراقيون بسماع أحداث تزوير الانتخابات وحرق صناديقها، ليكتشفوا بالتالي زيف هذه الوعود واستمرار لعبة الضحك على الذقون التي يتقنها الفاسدون، حينما يعلنون افلاسهم، وحين ينكشف أمرهم عند لحظة الالتماس والمواجهة مع المشاكل الأساسية التي تواجه العراق، والتي يتحمل مسؤولية استمرارها نظام المحاصصة الطائفي وفساده المستشري على حساب الطبقة الفقيرة التي تمثل الأكثرية من المحرومين الذين فقدوا الثقة بدعاة الدين السياسي الطائفي، ولم يعد من الممكن القبول بتصديق وعود هذه الأحزاب التي تتاجر بمظلوميتهم وإيمانهم السماوي، وتحرمهم من أبسط حقوق المواطنة والتمتع بخيرات العراق في لقمة العيش الكريم.وعلى الرغم من حجم المسؤولية التي يتحملها النظام السياسي الطائفي منذ غزو العراق في 2003 إلا ان هذه الظاهرة لا تعفي بعض الدول الإقليمية وإيران من مسؤوليتها في «خراب البصرة» حيث عانى جنوب العراق الإهمال على الرغم من الثروة النفطية الهائلة، منذ بدء التدخل الإيراني في شؤون المنطقة العربية، ناهيك عن تداعيات الحروب التي أوقعت العراقيين وأهل البصرة في شرك الأجندات الإقليمية وأخطاء الأنظمة السابقة، لتطول وتستمر في فترات حكم أحزاب الدين السياسي، بعد غزو العراق وتقاسم احتلاله من قبل أمريكا وإيران. إنّ حرق صور رموز النظام الثيوقراطي وتدمير مقار الأحزاب والقوى السياسية والفصائل المسلحة التابعة له أحسن دليل لا يمكن إنكاره لحجم الرفض الشعبي في الجنوب العراقي للنفوذ الإيراني في بلاد الرافدين عموما، والبصرة بشكل خاص.ثمة من يزايد في كذبه وحقده في تفسيره لطبيعة هذه التظاهرات العفوية السلمية، التي خرجت من دون أي تنظيم مسبق، من خلال الطابع السلمي للشباب الثائرين ورثة ملابسهم، حيث لم يمتلك المتظاهرون سوى سلاح هتافات الغضب، نتيجة للظلم الذي تتعرض إليه مدينتهم، منبع ثروات العراق النفطية، التي يصفونها «بقرة العراق الحلوب» نتيجة ضخامة حجم حقول النفط العراقي الذي يمثل المصدر الرئيسي لصادرات العراق، والتي لم يجنوا منها سوى دخان حقولها النفطية التي تغطي سماء المدينة.وثمة من يزايد في دعمه وسكوته على ممارسات النظام العراقي، وعدم شرعية الطائفية السياسية في حكم العراقيين، وإذلالهم، ويفضل السكوت إلى حد القبول بقمع العراقيين مقابل الحصول على الامتيازات الخاصة لدولهم في نفط العراق من خلال دعم الفاسدين والسارقين، بإفساح المجال لنقل الأموال المهربة وتأمين مستقبلهم في الخارج إلى مليارات الدولارات، والتي كان من الأفضل أن توفر للعراقيين الخدمات والكهرباء، وفرص العمل بدلا من استغلال العمالة الأجنبية الرخيصة التي تسلب فرص العمل على أرضهم التي ولدوا فيها.لقد كان لتظاهرات الطبقة المسحوقة في مدينة البصرة «ثغر العراق الباسم» كما يصفها العراقيون بما ترجمته من معارضة واضحة ضد الأحزاب الحاكمة، وما حملته من تضحيات بشرية، سقط فيها المئات من القتلى والجرحى أثناء المواجهات مع القوات الأمنية، الأثر الكبير في تسليط الضوء وكشف حقيقة النظام الحاكم وأهدافه الخطيرة بعد أن أسقط البصريون ورقة التوت التي تغطي عورته الطائفية من خلال التلويح بالمظلومية التي يتبرقع بها في كل مناسبة لتحشيد وتفريق العراقيين فيما بينهم، للحفاظ على الامتيازات والمصالح الفئوية ونهب للمال العام.ما يحدث اليوم على تراب مدينة البصرة العراقية، ليس مجرّد مشاهد انتفاضة عادية لشباب يبحث عن كهرباء وماء صالح للشرب، بل إنها رد فعل وإحساس طبيعي للمظلومية المشتركة التي يعاني منها العراقيون بمعناها وبعدها الوطني، التي لم تعد تفرق بين المكونات العراقية. لقد أثبتت أحداث البصرة الأخيرة وتعاطف العراقيين معها عن مدى ارتباط مستقبل العراقيين بعضهم مع البعض من خلال وحدة المصير. فما إن تظاهر سكان البصرة حتى خرج الآخرون في النجف وكربلاء والناصرية والسماوة وميسان والديوانية والعاصمة بغداد للتظاهر والتعبير عن سخطهم لجميع الأحزاب بدون تمييز.لقد ترجمت انتفاضة المحرومين في البصرة ومدن الجنوب من خلال رفع شعارات «لا صدرية ولا مدنية ولا شيوعية ولا دعوجية ولا حكيمية ولا بعثية مطالبنا_وطنية « على عفوية الانتفاضة وصدق أهدافها وعمق أسبابها الإنسانية التي تمثل المطالب المشروعة لحقوق العراقيين في تقرير مصيرهم ومصير بلدهم المغلوب على أمره.من هنا أضحت انتفاضة البصريين بمثابة رد اعتبار للحركة الوطنية العراقية المعارضة للنظام الطائفي، الذي اتهم المعارضة الوطنية العراقية الأصيلة على إنها ليست سوى معارضة سنية وحزبية شيعية، تعمل على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، لسحب البساط من أحزاب الدين السياسي، التي جاءت نتيجة لشعارات «المظلومية الطائفية» التي كان يراد منها تمزيق العراق وسرقة ثروات العراقيين. إنها ثورة العراقيين ورمز وحدتهم وتاريخهم المشترك، على الرغم من شكوك النظام العراقي في احتمالات نجاحها وقابلية استمرارها، نتيجة لغياب قيادة أو هوية سياسية خاصة لها، ورفض الإعلام الدولي المرتبط بالشركات النفطية إعطائها عمقا دوليا نتيجة للتوافق الناتج من ارتباط المصالح الذي يربط هذه الشركات مع استمرار الفوضى السياسية نتيجة لتمزق الدولة الناتج من صراع الأحزاب فيما بينها.في المقابل، يبدو ان تزامن ازدياد حجم الانتفاضة العراقية وأتساعها الأخير لتشمل العاصمة بغداد، مع استمرار الفوضى السياسية نتيجة لغياب برلمان واستحالة الخروج بتوافق لاختيار حكومة جديدة من جهة، وتطور الصراع الأمريكي ـ الإيراني في موضوع الملف النووي، ورفض التواجد الاستعماري الإيراني في البلدان العربية من جهة أخرى، قد يساهم في رفع القيود الخارجية التي تعيق نجاح انتفاضة العراقيين، نتيجة لتدهور العامل الخارجي المهيمن على العراق، من خلال اتساع الخلاف الأمريكي ـ الإيراني والذي سيزيد بدوره من حدة التوتر والخلافات بين الأحزاب المهيمنة على السلطة، بعد تزوير الانتخابات وحرق صناديقها. وهذا في حد ذاته إشارة مشجعة لثورة البصرة والعراق للمستقبل.!!
البصرة.. العراق : انتفاضة البصرة الوطنية رد اعتبار لكل العراقيين!!
22.07.2018