أحدث الأخبار
الخميس 13 آذار/مارس 2025
عن الحقد والسخرية السوداء!!
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 13.03.2025

هل في استطاعة المرء طرح مقارنة بين روايتين تبدو كل واحدة منهما على ضفة أخرى من ضفاف الأدب؟ تلك تبدو مغامرة، لكنها في النهاية تستحق التأمل، حتى لو خرج المرء بنصف نتيجة جيدة، أو ربع نتيجة جيدة، أو لا شيء، ففي النهاية، يبدو أنه سعى في منطقة تبدو ملتبسة، ما بين التراجيديا والكوميديا السوداء.
هل يمكننا عقد مقارنة بين رواية «موبي ديك» ورواية «دون كيخوته»، وأن نرى، ولو خطفاً، خيط العبث الذي يخترق الروايتين، وإن كان للعبث أسبابه ودوافعه وهو يعبر المنطقة العميقة لكل منهما؟
في ظني أنها مقارنة غريبة ومغرية في آن، ولعلها مشوّقة أيضاً، بينما المرء يمتحن داخله أيضاً بكل ما في هذا الداخل من حواس، ولا أقول من أفكار.
هل يمكن أن يكون «العبث» محوراً مشتركاً في الروايتين، رغم اختلافهما؟
في «موبي ديك»، نجد أن هوس «آخاب» بالولاء إلى فكرة واحدة وهي الانتقام من الحوت الأبيض الذي تسبب له بفقدان ساقه، يعكس نوعًا من العبث الذي يعميه عن الواقع ويجعله يغرق في جنون قراره (مطاردة الحوت وقتله)، ولا أقول جنون مغامرته التي بلا معنى في النهاية. فآخاب يعتقد جازماً أنه في مهمة نبيلة.
ربما العبث في الرواية هنا يكمن في العجز البشري عن فهم عالم الطبيعة ومحاولة فرض معان فلسفية على ما قد يكون عبثًا في جوهره.
أما في «دون كيخوته»، فالفكرة تتعدّى العبث إلى شيء أعمق. شخصية دون كيخوته تُظهر التناقض بين الواقع والخيال، وكيف يمكن لأفكار رومانسية عن الشجاعة والشرف أن تقود إلى الفشل التّام. وهذا الصراع بين المثالية والواقع يُظهر عبثًا في طموحاتٍ شخصيةٍ ضد عالم لا يتجاوب معها.
لكن في العمق، يمكننا أن نرى عبثًا يتسلل إلى كلٍّ من الروايتين، لأن الشخصيتين الرئيسيتين في النهاية، آخاب ودون كيخوته، يعجزان عن فهم الواقع أو التأثير فيه كما يرغبان، ويدفعهما ذلك للقيام برحلتين لا تحققان سوى نتائج مأساوية.
بطل موبي ديك الغاضب الذي يرفض أن يكون أقل قوة من الطبيعة، يعرف ما يقوم به، ويقينه أنه قادر على تحدي أكبر كائنات هذه الطبيعة، لكن ما يقود دون كيخوته فيه الكثير من النبل والبراءة، وليس ضاراً في النهاية.
هناك فرق أساسي في دوافع الشخصيتين، رغم أن لكل منهما طريقة مختلفة في التعامل مع هذا «العبث».
بطل موبي ديك، الذي يحرّكه دافع شخصي للانتقام على طريقة (عليّ وعلى أعدائي) لا يهمه أيضاً الخطر المحدق بكل من معه على ظهر السفينة في تلك المطاردة العاتية للحوت، فكل ما يريده أن يؤكد قدرته وقوته وهو يتحدى الطبيعة، كما ذكرت؛ فهو ليس غافلًا عما يقوم به، بل مدفوع بعقيدة عميقة في مواجهته هذه مع الحياة نفسها.
أما دون كيخوته، فهو بالفعل لا يسعى لإيذاء أحد أو التسبب في أذى، بل يحاول استعادة ما يراه غائباً، وهو «الشرف» في عالم مادي ومتغير. مغامراته مليئة بالأساطير والمثاليات التي قد تجعل منه شخصًا «مضحكًا» أو غريبًا في أعين الناس، لكنه في قلبه يبقى شخصية نبيلة ورومانسية. هو ليس مدركًا تمامًا لما يفعل مثل «آخاب» في موبي ديك، بل هو غارق في معتقداته العتيقة، ويفعل كل ذلك بشغف، بينما الآخر بحقد.
آخاب يدرك، لكن دون كيخوته لا يدرك.
ربما تكمن مأساة دون كيخوته في أنه لا يعترف بأنه يعيش في عالم قد تغير تمامًا عما يعتقده، فهو لا يستحق السخرية التي يواجهها. بينما تكمن مأساة «آخاب» في أنه يعتقد أنه قادر على قهر قوة عاتية لم يستطع أحد قهرها، أكبر منه ولا يمكن السيطرة عليها وإخضاعها.
لكنهما في النهاية يعكسان جانبين كبيرين من الحالة البشرية.
إنه الإنسان، هذا الخليط العجيب من كل شيء.
يبدو التشابه ظاهرياً هنا مستحيلاً، لكن الأمر يستحق تأمل هاتين الحالتين من منظور أوسع بكثير، يمس حياتنا البشرية اليوم، وعلى مستويات متعددة، حيث يتلاشى الخيط الرمادي في صراعات كثيرة، ويبدو آخاب شخصية متمثلة في دول وزعامات، وسعي لقهر العالم وإذلاله، بالانتقام منه، فمَن يسقط عن شجرة يسع مجنوناً لاقتلاع غابة أو حرقها، ومن يرِد ثمرة لا يستطيع الوصول إليها يقتلع الشجرة من جذورها ليصل إلى تلك الثمرة، التي قد تفسد بينما الشجرة تسقط.
لكن دون كخوته نموذج آخر، يُحَبُّ، بينما هو يتقافز لقطف نجمة، أو مصارعة «آخابات» كثر ممتلئين بالغضب على كل شيء، لا يدركون أن الأمر انتهى لغير صالحهم وإن فازوا، وإن قتَلوا أكثر، وأخضعوا العالم، فهم لا يعيشون غير حالة «هزائم المنتصرين»، وبقدر ما يبدو آخاب كائناً جباراً فإن كل سعيه للوصول إلى أن يكون متلبساً لدون كيخوته بصورة ما، تجعله أكثر مأساوية وتراجيديه، لأنه لن يستطيع أن يكون ذلك النبيل الشجاع، إنهما عالمان لا يجتمعان في واحد.
وبعــد:
يقول صلاح جاهين:
أنا اللي بالأمر المحال اغتوى
شفت القمر نطيت لفوق في الهوا
طلته مطلتوش – إيه أنا يهمني؟
وليه ما دام بالنشوى قلبي ارتوى
عجبي!

1